بقلم : عبد الودود يوسف
رسوم : هيثم حميد
ـ1 ـ
بسم اللهِ الرّحمنِ الرحيمِ
ألمْ ترَ كَيفَ فعَلَ ربُّكَ بأصحابِ الفيلِ (1) ألمْ يجعلْ كيدهُمْ في تضليـلٍ (2) وأرسَلَ عليهمْ طيراً أبابيلَ (3) ترميهمْ بحجارةٍ منْ سجيلٍ (4) فَجَعَلهُمْ كَعَصْفٍ مأكولٍ (5)
كيف فَعَلَ ربّكَ بأصحابِ الفيلِ ؟!!
كانَ الملكُ ذو نواس يُشرِفُ بنفسهِ على حفرِ الخنادقِ وإشعالِ النّيرانِ فيها بينما كان عشرونَ ألفاً من المؤمنينَ بِدينِ السيّدِ المسيحِ ينتظرونَ مَصيراً لم يكونوا يتصوّرونهُ . اشتعلت نجرانُ بالنّيرانِ ، ووصلَ لهيبُها إلى كلِّ مكانٍ ، وأخذَ جُندُ ذي نُواس اليهودي يُلقونَ بالمؤمنينَ في الخنادقِ يُحرقونهمْ دونَ رَحمةٍ لأنّهم اتّبعوا دينَ التّوحيدِ الخالصِ الذي جاءَ به الرّسولُ المسيحُ عليهِ الصّلاةِ والسّلام . لكنْ هل يتركُ اللهُ الظّالمينَ دُونَ عقابٍ ؟!! لابُدَّ أنْ يُهْلِكَهُمْ كَما أهْلكوا أتباعَهُ وَجُنْدَهُ ،لكِنْ متى سَيتمُّ ضلكَ . وأينَ ؟!!...
الفارسُ ذو ثُعْلُبانْ
كانت أجواءُ اليمنِ تمتَلئُ بالنّارِ وَالدُّخَانِ ، مَعَ قهقَهاتِ الملكِ الفاجرِ ذِي نُواسٍ . كمَا كانت أنّاتُ المؤمنينَ والشهداءِ تملأُ أجواءَ نجرانَ . وكانت صَحراءُ العربِ تشهدُ فارساً عَبقرياً جَعَلَ اللهُ بَينَ يديهِ بِداية الثّأرِ لأولئكَ المؤمنينَ .
كانَ الفارسَ دَوْسٌ ذُو ثُعْلُبان يَطويْ الصّحراءَ كالبَرقِ ، قَلْبُهُ مَمْلوءٌ بالحَسَراتِ ، وَعيناهُ تَذرِفانِ الدّموعَ عَلى أَهلهِ وأصْحابِهِ وأبنائِهِ الذينَ أحْرَقَهمُ الظّالمُ ذو نواسٍ في نجرانَ . كان قلبُهُ يَشتعلُ بالآلامِ حينَ يذكرُ صُراخَ الأمّهاتِ وبُكاءَ الأطفالِ الذينَ كانت نِيرانُ نجرانَ تأكلُهمْ . كما كانت قهقهاتُ ذي نواسٍ تَغرسُ في دمائهِ أعمقُ الأحزانِ .
ماكان دُوسُ ذو ثُعلُبانَ يُريدُ أنْ يَستريحَ لحظةً أوْ يأكُلَ زاداً . طارَ منَ اليمنِ إلى الشّامِ ليَلقى هُناكَ قيْصرَ الرّومِ الذيْ كان يزورُ دمشقَ ليثيرهُ على ملكِ اليمنِ ذي نواسٍ وليُقنِعَهُ بإرسالِ جيشٍ يثأرُ لأهلِ نَجرانَ المحَرَّقينَ .
عبرَ ذو ثُعلُبانَ بوّابةَ بابِ الجابيةِ في دمشقَ . وغُبارُ الصَّحراءِ يُغطيهُ من رأسِهِ حتى قدميهِ .
أسرعَ إلى أوّلِ حمامٍ رآهُ ، دخلَ إليهِ ، ولبسَ ثوبهُ اليَمنيُّ الرَّائعَ الذي أحضرهُ منْ أجلِ مقابلةِ القيصرِ العَظيمِ . وأصلحَ من حَالِ فرَسهِ ، وحملَ سيفهُ ورُمْحَهُ .
وتوجّهَ إلى قصرِ القيصرِ العَظيمِ ، لكن كيفَ يَستطيعُ الوصُولَ إليهِ ، اتجهَ إلى الكنيسةِ العُظمى . دخلها وصلّى فيها فأثارَ مَنظرهُ كاهِنَ المعْبدِ ، اقتربَ منهُ ، فقالَ لهُ ذو ثعلُبانِ :
ـ أنا من اليَمنِ ، إسمي ذو ثعلبانَ ديني المسيحيةُ ، هل أستطيعُ رؤيةَ الكاهنِ الأعظَمِ ؟!! وهذهِ هديةٌ تَليقُ بك .
وأخرجَ منْ جيبهِ كِيساً مَمْلوءاً بالذّهبِ ، ودفعهُ إليهِ .
همس الكاهنُ :
ـ سَأوصلكَ إليه فوراً . اتبعني .
وبعدَ دقائقَ دخلَ ذو ثُعلبانَ إلى الكاهنِ الأعظمِ ، فلمّا وقفَ أمامهُ كسَرَ رُمحهُ ، وخمشَ وَجهَهُ ، وصرخَ :
ـ يا للعارِ يَلحقُ بدينِ المسيحِ ، سالتِ الدّماءُ من وَجههِ وأثار مَشهدهُ الكاهنَ الأعظمَ ، صاحَ بهِ الكاهنُ :
ـ سَنرفعُ عنكَ العارَ يا ذا ثعلبانِ . قل ماذا حدثَ لكَ ؟ .
صَرخَ ذُو ثعْلبانَ :
ـ يا ليتَ الكارثةَ قدْ وقعتْ بيَ وحدي يا سيّدي .لقد أحرقَ ذو نواسٍ الكافرُ أتباعَ السّيدِ المسيحِ في نجرانَ . ألقى الأطفالَ والنّساءَ والكُهَّانَ في خنادِقِ النّيرانِ .
صرخَ الكاهنُ الأعظمُ :
ـ يا لثاراتِ الشّهداءِ ، لنْ أنامَ ، ولنْ أتناولَ الطّعامَ حَتّى يُرسلَ معَكَ القيْصرُ أعظمَ جيوشِهِ للثّأرِ للشّهداءِ ، فهيّا معيَ إلى القصْرِ .
ما كان ذو ثعْبانَ يظنُّ أنّهُ سَيَصلُ إلى القصرِ بهذِهِ السُّهولةِ . فلمّا دّخلَ القصْرَ معَ الكاهِنِ الأعْظمِ كانَ يُدَبِّرُ خِطّةً ناجحةً لإثارةِ القيصرِ كَما أثارَ الكاهنَ الأعظَمَ .
تقدّمَ الكاهنُ في قاعة القيصر إلى عرشهِ الامبراطوري ، ووقفَ القيصرُ إجلالاً لهُ ، وَوَقفَ الوزراءُ والقادةُ كُلُّهمْ لِوقوفهِ . صرخَ الكاهنُ :
ـ يا لثاراتِ الشّهداءِ ؟!! صمَتَ الجميعُ بينما كان ذو ثعلبانَ يُمزقُ ثيابهُ ، وَيَجرحُ وَجههُ .
همسَ القيْصرُ :
ـ نحنُ لثأرِكَ يا مَولانا ، قلْ مل ما تريدُ ونحنُ تحتَ أمرِكَ .
صرخَ الكاهنُ :
ـ اسمعْ لليَمَني دَوسٍ ذي ثُعلُبان .
فلمّا حدّثهُ ذو ثُعلبانَ صرخَ :
ـ وَيْلكَ يا ذا نُواس ، قدْ حَلّتْ عليكَ اللّعنةُ ، ستأكُلُكَ جُيوشُنا ، وتَنتقمُ لشُهَدائنا .
صرخَ القيصرُ وصَوتهُ يَرتجفُ منَ الغَضبِ :
ـ اكتب أيّها الوزيرُ كتاباً إلى نجاشي الحَبشةِ كي يُرسلَ إلى اليمنِ أعظمَ جُيوشِهِ ليذبَحَ ذا نواسٍ وليثأرَ للشهداءِ . أعطِ الرسالةَ لذي ثعلبانَ ، وأرسلْ معهُ مائةَ فارسٍ وخادمٍ يسيرونَ معهُ إلى النّجاشي لتنفيذ أمرنا فَوراً .
خَرَجَ ذو ثعلبان من بلاطِ القيْصرِ وهوَ يُدمدمُ :
ـ بدأ الثأرُ يا ذا نُواس . لن أهدأَ حتّى أذبحكَ كمَا ذَبحْتَ المؤمنينَ .
الطريقُ طويلٌ
سارَ ذو ثعبانَ شهوراً كاملةً مع فُرسانهِ وخدّامهِ ، كانَ كلَّ يَومٍ يَقرأُ رسالةَ القيصرِ إلى النّجاشي مرّتين . مرّةً حينَ يستيقظُ ، ومرّةً حينَ ينامُ . ولا يكادُ ينتهي منها حتى يقفزَ قلبُهُ منَ الفرحِ . كانتْ نفسهُ تهتفُ لهُ :
ـ إن كنتَ يا ذا نُواسٍ تستطيعُ قتلَ المؤمنينَ الأبرياءِ ، فالله قادرٌ على الانتقامِ منكَ بأيدي منْ همْ أقوى منكَ .
كانَ فُرسانهُ يُحيطونَ بهِ كالملكِ ، وكانَ بَيْنهمْ قائداً عبقرياً حَقّاً ، وَجهٌ رائعٌ ، وذكاءٌ لامعٌ ، ونفسٌ هنيةٌ ، وقلبٌ حزينٌ ، وكفٌّ كريمةٌ . لكن أينَ أنتِ يا حبشةُ ؟!!
هل يستجيبُ النّجاشيّ ؟
تهيّأ فرسانُ الحبشةِ لاستقبالِ وفدِ القيصرِ ، كانَ ذو ثعلبانَ يسيرُ وسطَ المائةِ فارسٍ وقلبُهُ قَلقٌ ، ونفسُهُ مملوءةٌ بالمخاوِفِ أنْ يجدَ النّجاشي لنفسهِ عُذراً فلا يلبي طلبَ القيصرِ .
صاحَ قائدُ حرسِ القيصرِ عندما دخلَ ذو ثعلبان إلى بلاط النّجاشي :
ـ أهلاً برُسلِ القيصرِ ... أمرهمْ على الرّأسِ والعينِ .
وقفَ القادةُ كلّهمْ في قاعةِ النّجاشي وهُمْ يُتابعونَ حركاتِ ذي ثعلبان الهادئة اقتربَ من النجاشي وأحنى رَأسهُ ، ورَكعَ على رُكبتيهِ ، وقدّمَ رسالةَ القيْصرِ . ثم وقفَ ينتظرُ . قرأ النّجاشيُ الرّسالةَ ، ثمَّ نظرَ إلى ذي ثعلبان . فوضعَ ذو ثعليانَ أظافِرَهُ في وَجْههِ ... وغرسها حتى سَالتْ منهُ الدّماءُ ، ووقعتْ قطراتُها على الأرضِ عندَ قدمي النّجاشيِّ حَمراءَ ساخنةً ، وذرفَ الدَّمعَ وهو يَهمسُ :
ـ يا لثاراتِ دينِ المسيحِ ، يا لثاراتِ أهلي وأطفالي وأمّةِ نجرانَ كلِّها .
وقفَ النجاشي بقوةٍ ، ثمّ نظرَ إلى يمينهِ وشِمالهِ وتقدّمَ ، فوقفَ الموجودونَ ، كُلَّهمْ لِوقوفهِ صرخَ :
ـ على القائدينِ أبرهةَ وأرْياطَ أنْ يُجهِّزا جيشاً كبيراً لغزوِ الكافر ذي نُواسٍ في اليمنِ .
صاحَ القائدانِ :
ـ سمعاً وطاعةً يا مَولايَ .
بينما كان النجاشي يقتربُ منْ ذي ثعلبانَ ، ويمسحُ بيدهِ دماءَ وجْههِ ودموعَ عَينيهِ .
انحنى ذو ثُعلبان وقبّلَ رِداءَ النجاشي ، فرَفعهُ النجاشي وقال لهُ :
ـ سَتكونُ أنتَ ملكَ اليمنِ بعدَ زَوالِ الفاجرِ ذي نواسٍ ، وسأُرسلُ معكَ جَيشاً لمْ ترَ اليمنُ أكبرَ منهُ ، فهلْ يُرضيكَ هذا ؟!!..
همسَ ذو ثعلبانَ :
ـ وهل نسيرُ غداً إلى اليمنِ يا مولانا ؟!! أمْ أسبقُ الجيشَ لأُمهّدَ لهُ الطّريقَ .
ابتسمَ النجاشيُّ وقال :
ـ لا .. لا .. ستذهبُ مَع الجيشِ ، وجيشُنا القويُّ لا يحتاجُ إلى تَمهيدٍ . وسَتقتلُ ذا نواسٍ بيَدَيكَ ، وغداً تُسافرونَ إلى اليمنِ إنْ أردتَ ذلك .
ركعَ ذو ثعلبانَ مَرةً أُخرى ، وقبّلَ طرفَ رِداءِ النَّجاشيّ ، وانسَحبَ منْ بلاطهِ إلى القصرِ الذّي أمَرَ النَّجاشي أن يَنزلَ فيه .
لمْ ينمْ ذو ثعلبان تلكَ اللّيلةَ ، كان يُصلي لله حَمداً وشُكراً ويصقلُ سَيْفهُ ، ويُهيّئ بيدهِ رُمحاً خارقاً ، وتُرساً حبشياً نادراً .
ماذا سيَحدُثُ للملكِ الظَّالمِ ذي نواسٍ ؟!!
عبَرَ جَيْشُ أبرهةَ وأرياطَ الضّخمُ مَضيقَ بابَ المندبِ إلى اليمنِ وكانَ أوّلَ عابرٍ هو ذو ثعلبانَ ، فلمّا خرجَ منَ البحرِ إلى برِّ اليمنِ ، رفعَ يدهُ برمحهِ ، وغرسهُ في الأرضِ بكلِّ قُوّتهِ وصرخَ :
ـ غداً سنثأرُ يا ذا نواس ، سننتقمُ لأرواحِ المؤمنينَ الذينَ أحرقتهمْ في خنَادقِ نجرانَ.
وبعدَ أيّامٍ كان جيشُ أبرهةَ وأرياطَ يقفُ أمامَ جيشِ ذي نواسٍ ، وَهيهاتَ لذي ثعلبانَ أن ينتظرَ ، هَجَمَ على ذي نواسٍ ، وَ هَجَمَ الجيشُ كُلُّهُ بَعدهُ . وفي أقلَّ من ساعةٍ انهزمَ جيشُ ذي نواسٍ ، لكنْ هيهاتَ أنْ يُفلتَ من قبضةِ ذي ثعلبانَ ، هَرَبَ ... فلحقهُ ذو ثعلبانَ رَغمَ الجِراح التي كانتْ تملأُ جَسَدَهُ من ضَرَباتِ حُرّاسِ ذي نواسٍ وأعوانهِ . كانَ دمهُ يَنزفُ بغزارةٍ لكنَّ رُوحهُ كانتْ أقوى منهُ ، كان يريدُ أنْ يقتلَ ذا نواسٍ مهما كلّف الأمرُ .
كان معهُ بعضَ جنودِ الحبشةِ . اقتربوا من البحرِ ، ولمّا لم يجد ذو نواسٍ مفراً ، خاضَ بفرسهِ البحرَ ، بينماكانت سهامُ ذي ثعلبان تلاحقهُ ، فلمّا اختفى في البحرِ غريقاً همسَ ذو ثعلبان :
ـ الحمدُ للهِ ، لقدِ انتقمَ الله منكَ أيّها الظّالمُ ، فليفرحِ الشّهداءُ المؤمنونَ .
ثمَّ سقطَ على الأرضِ ميتاً وهو يبتسمُ .
صاحَ القائدُ أبرهةُ :
ـ إنّهُ قدّيس .
وصاحَ القائدُ أرياطُ :
ـ إنهُ أعظم القدّيسينَ إنّهُ ملِكاً كما قال النجاشي .
همسَ أبرهةُ :
ـ أمَا وقد ماتَ فمنْ سَيكونُ الملكَ بَعدهُ ؟!!.
قهقهَ أرياطُ وقالَ :
ـ أنا أصبحُ ملكاً يوماً ، وأنتَ تُصبحُ بعدي ملكاً يوماً آخرَ .
قهقهَ أبرهةُ وصرخَ :
ـ أنا القائدُ الأوّلُ .
وصَرَخَ أَرياطُ :
ـ بل أنا القائدُ الأوّلُ ، والملكُ لي وحدي .
رفعَ أبرهةُ سيفهُ ، ووضعَ أرياطُ يدهُ على خنجرهِ ، وانقسمَ جَيشُ الحبشةِ إلى قسمين وكادت تقعُ بينهما حربٌ مدمرةٌ . صاحَ أبرهةُ :
ـ نرسلُ إلى النجاشي ، وننتظرُ أمرَهُ .
وصاحَ أرياطُ :
ـ سيوليني النجاشي مَلكاً على اليمنِ لا شكّ .
صرخَ أبرهةُ وهو يبتعدُ :
ـ سنرى ...؟!! سنرى ؟!!.
من سيفوزُ في الحربِ ؟؟.
لم يكن أبرهةُ يطيقُ أن ينتظرَ عندما علمَ أنَّ القائدَ أرياطَ يتصلُ بقادةِِ جيشِهِ ، ويُغريهمْ بالوقوفِ إلى جانبهِ ، ويعدُهمْ بأعظمِ المناصبِ إنْ همْ وقفوا معهُ ضدّ أبرهة . جمعَ أبرهةُ قادته وقال لهم :
ـ إنّ أرياط لا يُريدُ انتظارَ أمرَ النجاشي فلابدَّ أن نقتلهُ .
همسَ القادةُ :
ـ ونحن معك .
لكنَّ أرياطَ كانَ قدْ هيّأَ جَيشهُ للقضاءِ على أَبرهةَ . وقفَ الجيشانِ متقابليْنِ صاحَ أَرياطُ :
ـ يا أبرهةُ ، تعالَ نَحسمِ المعركةَ دونَ أن تذهبَ دِماءُ جيشِ الحبشةِ في هذه البلاد الغيبةِ . تعالَ للمبارزةِ ، فإمّا أنْ تقتلني وإمّا أن أقتلكَ .
أسرعَ أبرهةُ وخلفهُ حارِسهُ عَتودةُ . وهجمَ على أرياطَ يُريدُ قَتلهُ ، لكنَّ سيفَ أرياطَ كان أسرعَ منهُ ، أّصابَ وجهَ أّبرهةَ فقطعَ أنفهُ وشَفتهُ وذقنهُ فَشَرمهُ ، وأسرعَ عَتودةُ حارسُ أبرهةَ إلى أرياطَ ، وغرسَ رُمحهُ في عُنِقِهِ فقتَلَهُ .
صاحَ عتودة :
ـ الأحباشُ يَدٌ واحدةٌ مع أبرهةَ .
فصاحَ الجيشانِ :
ـ كُلُّنا مع أبرهةَ .
رَكِبَ أبرهةُ إلى قَصرِهِ لِيُداوي فيهِ جِراحهُ ، لكنَّ شفتُهُ بقيتْ مشقُوقَةً فَسمّاهُ العَربُ أبرهةَ الأشرمَ .
رسالةٌ من النّجاشي
امتلأ قلبُ أبرهة بالخوفِ حِينَ وصلتهُ رسالةٌ من النجاشي يقولُ لهُ فيها :
ـ واللهِ سأقتلُكَ ، سَأدوسُ أَرضكَ ، سَأذِلُّكَ ، سَأحلِقُ شعرَ رأسِكَ كالعبيدِ ، كيفَ تقتلُ قائدي أرياطَ ؟!!.. أيّها الأحمقُ ، تُريدُ أنْ يكونَ لكَ مُلكُ اليَمنِ دونَ إذني ، سَأقودُ جَيشاً بِنفسي لأؤدِّبكَ .
اشتعلتِ الحُمّى في جِسمِ أبرهةَ المريضِ خوفاً منَ النّجاشي أن يقتُلهُ أو يعزِلهُ عنْ مُلْكِ اليمنِ فمَاذا يفعل ؟!
صرخَ :
ـ آتوني بقدرٍ منْ ذهبٍ .
فلمّا أَتوهُ بهِ صاحَ :
ـ املؤوهُ مِنْ تُرابِ اليمنِ ، وعطّروهُ .
ففعلوا . صرخَ :
ـ أيّها الحلاّقُ ، احْلِقْ رأسي كُلّهُ .
فلمّا حلقَ لهُ ، صاحَ :
ـ هاتوا صُندوقاً مُطَعّماً بالماسِ والجوهرِ .
فلمّا أتوهُ به وَضَعَ به شعرهُ ، ثمَّ تناولَ ورقةً وقلماً وكتبَ :
ـ سيّدي وَمولايَ النجاشي . دمي فِداؤكَ ، وأنا عَبدُكَ المطيعُ ، أَرسلتُ لكَ تُراباً من أرضِ اليمنِ لِتدوسهُ . وقصَصْتُ لكَ شَعري كلّه كما أحْبَبْتَ لتَبَرَّ بيَمينكَ ، ولا حاجةَ بك أن تَأتيَ إلينا فأنا تحتَ أمركَ ، أنا آتٍ إليكَ عَبداً ذليلاً إنْ أَردتَ ، إنني بانتظارِ أمركَ .
ابتسمَ النجاشيُّ حينَ قرأ رسالةَ أبرهةَ ، فأرسلَ إليهِ أنّهُ قدْ رضيَ عنهُ ، وأنّهُ قد عيّنهُ ملكاً على اليمنِ .
القُلَّيسْ
كانَ سرورُ أهلِ اليمنِ عظيماً بجيشِ الحبشةِ وبأبرهةَ الذّي خلّصهمْ منْ الظّالمِ ذي نواسٍ .
أعلنَ المؤمنونَ دِينهمْ ، وبنَوا الكنائسَ في كُلِّ مكانٍ ، لكنَّ ضَنعاءَ لَمْ تكنْ تحوي كنيسةً مَلَكيةً ، وهلْ تقومُ مَملكةٌ دونَ كَنيسةٍ ملكيةٍ . وَكُهّانٍ عِظامٍ ؟!!.
وتحوّلتْ صنعاءُ كُلُّها إلى ورشةٍ عظيمةٍ لبناءِ كنيسةِ الملكِ أبرهة . وما زالَ البَنّاؤونَ يَرفعونَ بناءَها حتى ناطحتِ السّحابَ ، كانَ النّاسُ يَنظرونَ إليْها فلا يَرونَ آخِرها حتى تقعَ قلانسُهُمْ عنْ رؤوسهمْ .
مَلأها أبرهةُ بالكُهّانِ ، فأصبحتْ آيةً من آياتِ الدُّنيا الرّائعةِ ، بناءً لمْ تعرفْ لهُ اليمنُ مَثيلاً إلا قصرَ بلقيسَ العظيمَ الذي أخذَ أبرهةَ أحجارَهُ وَرُخامهُ ومرمرهُ ليَبني بهِ كَنيستهُ الهَائلةِ .
كانت قوافلُ قريشٍ تدخلُ صَنعاءَ ، فيَدورُ رجالها حولَ كنيسةِ الُلَّيسِ يَتفرجونَ عليها ويقولونَ :
ـ ما أروعها وما أعظمها .
لكنهم ما كانوا ليدخلوها لأنّ عندهمُ الكعبةَ بَيتَ اللهِ الذي بناهُ النبيُ إبراهيمُ عَليهِ الصّلاةُ والسَّلامُ .
دخلَ أبرهةُ كنيستهُ مَعَ وفدِ النجاشيِّ الذّي جَاءَ ليَرى الكَنيسةَ المذهلةَ . وامتلأتْ نفسُ أبرهةَ فَرَحاً بِها وعَادَ الوفدُ إلى النجاشيِّ ليُخبرهُ بمَا رَأى ومَعهُ رسَالةٌ منْ أبرهة .
يَقولُ لهُ فيها :
ـ أصبحَ شعبُ اليمنِ كُلّهُ على دِينِ المسِيحِ ، وسَأعملُ على إيصالِ ديننا إلى أبعدِ مكانٍ في بلادِ العَربِ ، وسأوافيكَ بالأخبارِ عَن كلِّ انتصارٍ ، وسَأجعلُ العَربَ كُلَّهمْ يَحجّونَ إلى القُلَّيسِ ، وَيتركونَ الحَجَّ إلى الكَعبةِ في مكّة .
أبرهةُ الأشرمُ مَاذا يفعلُ ؟!
فُوجئَ أهلُ مَكّةَ برسُولِ أبرهةَ إليهمْ ، جَلسوا إليهِ في دَارِ النّدوةِ ، قال لهمْ :
ـ إن المَلكَ أبرهةَ يأمركمْ أن تَحُجُّوا إلى كَنيسةِ القُلَّيسِ في صَنعاءَ ، وتتركوا الحجَّ إلى الكعبة في مكةَ .
صاحَ عَبدُ المطلبِ :
ـ ويْلكَ ، أنتركُ دِينَ إبراهيمَ ، وكعبةَ ربِّنا التي بَناها نبيّهُ ، ونحجُّ إلى كنيسةِ صنعاءَ .. لا .. لا.. لا يمكنُ لهذا أن يكونَ .
وضجَّتْ أحياءُ العَربِ كُلُّها بأمرِ أبرهةَ الأشرمِ ، ورَفضوا كلُّهمْ ما أرادهُ . وصلَ الرُّسُلُ إلى إلى أبرهةَ ، وأبلغوهُ ما سمعوهُ من قبائلِ العربِ ، فطارَ صوابُه ، كيفَ ترفضُ العربُ دينهُ وقَدْ أتى ليُنقذَهمْ من الملوكِ الذينَ كانوا يَظلمونهُمْ ؟!
وَفوجئ أبرهةُ بمَا لَمْ يكنْ يَتوقعُهُ . قبلَ أنْ تطلعَ الشّمسُ ، أسرعَ إليهِ وزيرهُ وهمسَ لهُ :
ـ سيّدي أبرهة ، كاهنُ كنيسةِ القُلّيسِ يرجو رؤيتكُم .
نَهَض أبرهةُ لاستقبالهِ بِنفسهِ ، رآهُ يقطرُ وجههُ بالغَضبِ ، عَجِبَ لهُ ، هَمَسَ رئيسُ الكُهّانِ :
ـ أدركْ شرفكَ وَشَرفَ دينِكَ يا مولايَ ، دخلَ إلى كنيسةِ القُلّيسِ بَعضُ عَربِ مكّةَ ، فلمّا خَرَجوا وجَدنا في الهيكلِ بقاياهُمْ النّجسةَ ، فهلْ تتصوّرُ أفظعَ من هذهِ الإهانةِ لبيوتِ اللهِ ؟!! صرخَ أبرهةُ :
ـ يا ويْلهم ، لابُدَّ أن أؤدِّبهمْ ..
لكنَّ حديثهما لم يتمّ حِينَ دَخلَ مجموعة من الكهّانِ يَصرخونَ :
ـ كنيسةُ القُليسِ تحترقُ ، أدركنا يا مولانا الكاهِنُ الأعظمُ .
ردّدَ أبرهةُ :
ـ تحترقْ ؟!! واللهِ لأهدِمنَّ كعبتهمْ ، واللهِ لأنهبنّ بِلادهمْ ، غداً يَروْنَ ماذا سَأصنعُ بهم ؟.
كانَ غضبُ نجاشيِّ الحبشةِ أشدَّ منْ غضبِ أبرهةَ حينَ علمَ بما حدثَ في كنيسةِ القُلّيسِ . أرسلَ لأبرهةَ جَيشاً ضخماً ، وأرسلَ لهُ أكبرَ أفيالهِ ليَهدمَ بهِ الكعبةَ ، فَلمّا وَصَلَ فيلُ النجاشيِّ إلى صنعاءَ انتشرَ خبرَهُ بَينَ قبائلِ العربِ كُلها .
خرجَ جيشُ أبرهةَ الضخمُ مُتوجّهاً من صَنعاءَ إلى مكّةَ ليهدمَ كعبتها ، وَينهبَ أهلها ، ويُجبرَ العربَ على الحَجِّ إلى كنيسةِ القُلّيسِ في صنعاءَ .
البطلُ العظيمُ ذو نَفْر
كانَ النعاسُ يُغالبُ الحارسَ قُماهَةَ ، فقدْ اقتربَ الفجرُ وكادَ النّهارُ يُطلُّ على الدنيا ، لكنّهُ طَرَدَ النَّومَ منْ عينيهِ حينَ رأى مجموعةً منَ الفُرسانِ يَقتربونَ من مضاربِ قبيلتهِ ، أخذَ سَيفهُ ، وأطلقَ كلابهُ ، التّي أسرعتْ تنبحُ بعُنفٍ ، فأيقظتْ رِجالَ القبيلةِ كُلَّهُمْ . خرجوا برماحهمْ وخناجرِهمْ ، وركبوا خيولَهمْ حينما رَأوا أن الفرسانَ القادمينَ ملثمونَ . أسرعَ أحدُ الفرسانِ القادمينَ ، وكشفَ لِثامهُ ، وألقى سَيفهُ أمامَ مَضاربَ القبيلةِ ، فألقى قُماهةُ سَيفهُ واقتربَ منه ، همسَ الغريبُ :
ـ الملكُ ذو نفرٍ ملكُ قبائلِ اليمنِ قدْ أتاكمْ .
هَلّلَ الرِّجالُ :
ـ يا مَرحباً بالملكِ ، يا مرحباً بالعزيزِ ، الأرضُ أرضُكَ ، والبلادُ بلادكَ .
أسرعَ الرِّجالُ إلى النيران فأوقدوها ، وقام النّساءُ يَنقلْنَ المياهَ ، بينما كانَ اليمنيُّ ذو نفرٍ يُعانقُ شيخَ القبيلةِ . همسَ شيخُ القبيلةِ :
ـ بكَّرتنا بالخيرِ يا مولايَ ؟
همسَ ذو نفر :
ـ أتيتُكمْ بخبرِ السّوءِ ، لا بالخيرِ ، أبرهةُ الأشرم الحبشيُّ في طريقهِ الآن إلى مكة ليَهدمَ الكعبةَ فماذا أنتمْ فاعلون ؟!!
هتفَ شَيخُ القبيلةِ :
ـ ويْلَهُ لنْ يصلَ إلى ما يُريدُ إلاّ على أعناقنا .
صاحَ ذو نفرٍ :
ـ حَيّاكَ اللهُ يا شيخُ ، فقد اكتملَ منّا جَيشٌ منْ قبائلِ اليمنِ كلّها ، وموعدُنا بعدَ ثلاثةِ أيّامٍ معَ جيشِ أَبرهةَ على مسيرةِ سِتةِ أيامٍ منْ صنعاءَ .
هتفَ شيخُ القبيلةِ :
ـ سنكونُ معكَ يا مَولايَ وإن شئتَ خَرجنا معكَ الآنَ .
غادرَ ذو نفرٍ مضاربَ القبيلةِ ، لم يَأكلُ فيها شيئاً فقدْ أقسمَ ألاّ يهنأَ بطعامٍ حتى يَقتلَ أبرهةَ الأشرمَ . غابَ في الأفقِ معَ فرسانه الملَثمينَ ، بينما اكنَ رجالُ القَبيلةِ يتفقدونَ سُيوفهمْ ورِماحهمْ ، ويُودِّعونَ أطفالهمْ ، كيْ يَلحقوا بالملكِ ذِي نَفْرٍ ، وليُحاربوا مَعهُ أبرهةَ الحَبشي الأشرمَ .
ذو نفرٍ هل ينتصرْ ؟؟
لمْ يكنْ أبرهةُ الأشرمُ يظنُّ أنّهُ سَيُقاتلُ جَيشاً لهُ شراسةُ جيشِ ذي نَفرٍ وحيلتهِ ، اصطدمَ معهُ فُجأةً ، وكان كلُّ مُقاتلٍ معهُ يَهجُمُ على المائةِ منْ جُنودِ أبرهةَ دُونَ أن يَهابَ .
كانت صَرَخاتُ ذو نفْرٍِ تَهُزُّ وِجدَانَ كُلِّ رَجلٍ من رِجالهِ :
كانَ يصرُخُ مَعَ قرعِ الطبُولِ :
ـ منْ كانَ يريدُ هَدمَ الكعبةِ فليَهربْ !! من كانَ يرضى أن يُداسَ بيتُ اللهِ فليهربْ !!
ما قُتلَ جنديٌّ من جنودِ ذي نَفْرٍ إلاّ وقتلَ عدداً من جُنودِ أبرهةَ . لكنْ هَيهاتَ للعَددِ القليلِ أنْ يثبُتَ أمامَ جيشٍ يَفوقُهُ عَشراتِ المرّاتِ . لكنَّ رَجُلاً واحداً من جيشِ ذي نفرٍ لمْ يهربْ .. ماتوا جميعاً أو أُسِروا ، أمّا هوَ فقد توغَّلَ في جَيشِ العدوِّ يقتلُ جُندهُ حتى تكسّرَ سيفُهُ ورُمحُهُ وخِنجرهُ فأسَرَهُ الجُنودُ وأخذوه فَوراً إلى أَبرهةَ .
نظرَ إليهِ أبرهةُ ساعةً منْ زمانٍ ، ثمّ قالَ لهُ :
ـ أراكَ قد جُننتَ يَا ذا نفرٍ ؟!.. أَمِثلَ جَيشنا يُحارَبُ ؟!!.. ألا تعرفُ أَننا لا نُغلبُ ، وَلنْ نُغلبَ ؟
همسَ ذو نفرٍ :
ـ لو كانَ عِندي رُبعُ جَيشِكَ لما انتصرتَ عليَّ أبداً .
صرخَ به أبرهةُ :
ـ إننا جُنودُ الرّبِّ يا ذا نفرٍ ، ولنْ يَهزمنا أحدٌ .
همسَ ذو نفرٍ :
ـ جنودِ الرّبِّ لايَهدمونَ بيتَ اللهِ الذّي بناهُ نَبيّه إبراهيمُ . الربُّ بريئ منكم .
صرخَ أبرهةُ :
ـ لكنْ بَعدَ أن أهدمَ الكعبةَ ، بيديّ هاتينِ .. وَيرى ذو نفرٍ حِجارتها كومةً أمامَ عَينيهِ .